تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 143 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 143

143 : تفسير الصفحة رقم 143 من القرآن الكريم

** فَكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصّلَ لَكُمْ مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
هذا إباحة من الله, لعباده المؤمنين, أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه, ومفهومه أنه لا يباح مالم يذكر اسم الله عليه, كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات, وأكل ما ذبح على النصب وغيرها, ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه, فقال {وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم} أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه, قرأ بعضهم فصل بالتشديد, وقرأ آخرون بالتخفيف, والكل بمعنى البيان والوضوح, {إلا ما اضطررتم إليه} أي إلا في حال الاضطرار, فإنه يباح لكم ما وجدتم, ثم بين تعالى جهالة المشركين, في آرائهم الفاسدة, من استحلالهم الميتات, وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى, فقال {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.

** وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ
قال مجاهد {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} المعصية في السر والعلانية, وفي رواية عنه, هو ما ينوي مما هو عامل, وقال قتادة {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} أي سره وعلانيته قليلة وكثيرة, وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات, وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان, وقال عكرمة: ظاهره نكاح ذوات المحارم, والصحيح أن الاَية عامة في ذلك كله, وهي كقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الاَية, ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} أي سواء كان ظاهراً أو خفياً, فإن الله سيجزيهم عليه, قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن معاوية بن صالح, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه, عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم, فقال «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه».

** وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىَ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
استدل بهذه الاَية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها, وإن كان الذابح مسلماً, وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة, على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة, وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً, وهو مروي عن ابن عمر, ونافع مولاه, وعامر الشعبي, ومحمد بن سيرين, وهو رواية عن الإمام مالك, ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين, وهو اختيار أبي ثور, وداود الظاهري, واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي, من متأخري الشافعية, في كتابه «الأربعين», واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الاَية, وبقوله في آية الصيد {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ثم قد أكد في هذه الاَية بقوله {وإنه لفسق} والضمير قيل عائد على الأكل, وقيل عائد على الذبح, لغير الله, وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد, كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» وهما في الصحيحين, وحديث رافع بن خديج «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» وهو في الصحيحين أيضاً, وحديث ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه» رواه مسلم, وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى, ومن لم يكن ذبح, حتى صلينا فليذبح باسم الله» أخرجاه, وعن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال «سموا عليه أنتم وكلوا» قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري, ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها, وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم, فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل, لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت, وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد, والله أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية, بل هي مستحبة, فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر, وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله, وجميع أصحابه, ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل نقلت عنه. وهو رواية عن الإمام مالك, ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه, وحكي عن ابن عباس, وأبي هريرة, وعطاء بن أبي رباح, والله أعلم. وحمل الشافعي الاَية الكريمة {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} على ما ذبح لغير الله, كقوله تعالى: {أو فسقاً أهلّ لغير الله به} وقال ابن جريج عن عطاء {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان, وينهى عن ذبائح المجوس, وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي, وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله {وإنه لفسق} حالية, أي: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقاً, ولا يكون فسقاً حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة, لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جملة فعلية طلبية وهذا ينتقض عليه بقوله {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} فإنها عاطفة لا محالة, فإن كانت الواو التي ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال, امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره, وإن لم تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله, والله أعلم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن المغيرة, أنبأنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في الاَية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: هي الميتة.
ثم رواه عن أبي زرعة, عن يحيى بن أبي كثير, عن ابن لهيعة, عن عطاء وهو ابن السائب به, وقد استدل لهذا المذهب, بما رواه أبو داود في المراسيل: من حديث ثور بن يزيد, عن الصلت السدوسي مولى سويد بن منجوف, أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر, إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» وهذ مرسل, يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل, فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم, أن ناساً قالوا: يا رسول الله, إن قوماً حديثي عهد بجاهلية, يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال «سموا أنتم وكلوا» قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً, لم يرخص لهم إلا مع تحققها, والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة: إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر, وإن تركها عمداً لم تحل, هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل, وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه, وإسحاق بن راهويه: وهو محكي عن علي, وابن عباس, وسعيد بن المسيب, وعطاء, وطاوس, والحسن البصري, وأبي مالك, وعبد الرحمن بن أبي ليلى, وجعفر بن محمد, وربيعة بن أبي عبد الرحمن, ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني, في كتابه «الهداية» الإجماع قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمداً, فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ: لو حكم حاكم بجواز بيعه, لم ينفذ لمخالفة الإجماع, وهذا الذي قاله غريب جداً, وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي, والله أعلم.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: من حرم ذبيحة الناس فقد خرج من قول جميع الحجة, وخالف الخير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي, أنبأنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو العباس الأصم, حدثنا أبو أمية الطرسوسي, حدثنا محمد بن يزيد, حدثنا معقل بن عبيد الله, عن عمرو بن دينار عن عكرمة, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح, فليذكر اسم الله وليأكله» وهذا الحديث رفعه خطأ, أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري, فإنه وإن كان من رجال مسلم, إلا أن سعيد بن منصور, وعبد الله بن الزبير الحميدي, روياه: عن سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن أبي الشعثاء, عن عكرمة, عن ابن عباس, من قوله فزادا في إسناده أبا الشعثاء ووقفاه, وهذا أصح, نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ, ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي, ومحمد بن سيرين, أنهما كرها متروك التسمية نسيانا, والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً, والله أعلم, إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفاً لقول الجمهور, فيعده إجماعاً, فليعلم هذا, والله الموفق.
قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد, قال: سئل الحسن, سأله رجل: أتيت بطير كذا, فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه, واختلط الطير, فقال الحسن كله كله, قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: {ولا تأكلوا ممالم يذكر اسم الله عليه} واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس, وأبي هريرة, وأبي ذر, وعقبة بن عامر, وعبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وفيه نظر, والله أعلم, وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث مروان بن سالم القرقساني, عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اسم الله على كل مسلم» ولكن هذا إسناده ضعيف, فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ضعيف, تكلم فيه غير واحد من الأئمة, والله أعلم. وقد أفردت هذه المسألة على حدة, وذكرت مذاهب الأئمة ومأخذهم وأدلتهم ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات, والله أعلم.
قال ابن جرير: وقد اختلف أهل العلم في هذه الاَية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء, وهي محكمة فيما عنيت به, وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم, وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد, حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن عكرمة والحسن البصري, قالا: قال الله {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} وقال {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} فنسخ واستثنى من ذلك, فقال {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وقال ابن أبي حاتم: قرى على العباس بن الوليد بن يزيد, حدثنا محمد بن شعيب, أخبرني النعمان, يعني ابن المنذر, عن مكحول, قال: أنزل الله في القرآن {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال {اليوم أحل لكم الطبيات وطعام الذي أوتوا الكتاب حل لكم} فنسخها بذلك, وأحل طعام أهل الكتاب. ثم قال ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض, بين حل طعام أهل الكتاب, وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه, وهذا الذي قاله صحيح, ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, قال: قال رجل لابن عمر, إن المختار يزعم أنه يوحى إليه, قال: صدق, وتلا هذه الاَية {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} وحدثنا أبي: حدثنا أبو حذيفة, حدثنا عكرمة بن عمار, عن أبي زميل, قال: كنت قاعداً عند ابن عباس, وحج المختار بن أبي عبيد, فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة, فقال ابن عباس: صدق, فنفرت, وقلت يقول ابن عباس: صدق ؟ فقال ابن عباس: هما وحيان: وحي الله ووحي الشيطان, فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ووحي الشيطان إلى أوليائه, ثم قرأ {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} وقد تقدم عن عكرمة في قوله {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرور} نحو هذا.
وقوله {ليجادلوكم} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا, ولا نأكل مما قتل الله, فأنزل الله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} هكذا رواه مرسلاً, ورواه أبو داود متصلاً, فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا, ولا نأكل مما قتل الله, فأنزل الله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} الاَية, وكذا رواه ابن جرير: عن محمد بن عبد الأعلى, وسفيان بن وكيع, كلاهما عن عمران بن عيينة به.
ورواه البزار عن محمد بن موسى الجرشي, عن عمران بن عيينة به, وهذا فيه نظر, من وجوه ثلاثة: (أحدها) أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا (الثاني) أن الاَية من الأنعام وهي مكية (الثالث) أن هذا الحديث رواه الترمذي عن محمد بن موسى الجرشي, عن زياد بن عبد الله البكائي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, ورواه الترمذي بلفظ أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره, وقال حسن غريب, وروي عن سعيد بن جبير مرسلاً, وقال الطبراني: حدثنا علي بن المبارك حدثنا زيد بن المبارك, حدثنا موسى بن عبد العزيز, حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: لما نزلت {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} أرسلت فارس إلى قريش, أن خاصموا محمداً وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال, وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب, يعني الميتة, فهو حرام ؟ فنزلت هذه الاَية {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} أي وإن الشياطين من فارس, ليوحون إلى أوليائهم من قريش.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا إسرائيل, حدثنا سماك عن عكرمة, عن ابن عباس, في قوله {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه, فأنزل الله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم, عن عمرو بن عبد الله, عن وكيع, عن إسرائيل به, وهذا إسناد صحيح, ورواه ابن جرير, من طرق متعددة, عن ابن عباس, وليس فيه ذكر اليهود, فهذا هو المحفوظ, لأن الاَية مكية, واليهود لا يحبون الميتة, وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} إلى قوله {ليجادلوكم} قال: يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم, ولا تأكلوا مما قتل الله ؟ وفي بعض ألفاظه, عن ابن عباس, أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه, وأن الذي قد مات, لم يذكر اسم الله عليه.
وقال ابن جريج: قال عمرو بن دينار عن عكرمة أن مشركي قريش كاتبو فارس على الروم, وكاتبتهم فارس, فكتبت فارس إليهم: إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه وما ذبحوه هم يأكلونه, فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فأنزل الله {وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} ونزلت {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرور} وقال السدي: في تفسير هذه الاَية: إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, فما قتل الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم تأكلونه ؟ فقال الله تعالى: {وإن أطعتموهم} فأكلتم الميتة {إنكم لمشركون} وهكذا قاله مجاهد, والضحاك, وغير واحد من علماء السلف.
وقوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} أي حيث عدلتم, عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره, فقدمتم عليه غيره, فهذا هو الشرك, كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} الاَية, وقد روى الترمذي: في تفسيرها عن عدي بن حاتم, أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم, فقال «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم».

** أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً, أي في الضلالة هالكاً حائراً, فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان, وهداه له ووفقه لاتباع رسله, {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به, والنور هو القرآن كما رواه العوفي, وابن أبي طلحة, عن ابن عباس, وقال السدي, الإسلام, والكل صحيح {كمن مثله في الظلمات} أي الجهالات, والأهواء والضلالات المتفرقة, {ليس بخارج منه} أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه, وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله خلق خلقه في ظلمة, ثم رش عليهم من نوره, فمن أصابه ذلك النور اهتدى, ومن أخطأه ضل» كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم} وقال تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون} وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما)يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير}, والاَيات في هذا كثيرة, ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة {وجعل الظلمات والنور}, وزعم بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان, فقيل عمر بن الخطاب, هو الذي كان ميتاً فأحياه الله, وجعل له نوراً يمشي به في الناس, وقيل عمار بن ياسر, وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها ابو جهل عمرو بن هشام لعنه الله, والصحيح أن الاَية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر.
وقوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة, قدراً من الله وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.

** وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
يقول تعالى, وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين, ورؤوساء ودعاة إلى الكفر, والصد عن سبيل الله, وإلى مخالفتك وعداوتك, كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك, ثم تكون لهم العاقبة, كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الاَية, وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيه} الاَية, قيل معناه: أمرناهم بالطاعة فخالفوا, فدمرناهم, قيل: أمرناهم أمراً قدرياً, كما قال ههنا {ليمكروا فيه} وقوله تعالى: {أكابر مجرميها ليمكروا فيه} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس {أكابر مجرميها ليمكروا فيه} قال: سلطنا شرارهم فعصوا فيها, فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وقال مجاهد وقتادة {أكابر مجرميه} عظماؤها, قلت: وهكذا قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} وقال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح {ومكروا مكراً كبار} وقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر با لله ونجعل له أنداد} الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان, قال: كل مكر في القرآن فهو عمل, وقوله تعالى: {وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم, كما قال تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وقال {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}. وقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة, قالوا {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة, كما تأتي إلى الرسل, كقوله جل وعلا {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربن} الاَية.
وقوله {الله أعلم حيث يجعل رسالته} أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه, كقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمتَ ربك} الاَية, يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {من القريتين} أي من مكة والطائف, وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً, وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وإذا رآك الذين كفروا إِن يتخذونك إِلا هزواً, أهذا الذي بعث الله رسول} وقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون} وقال تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه, وطهارة بيته ومرباه, ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه, حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين» وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم ؟ قال: هو فينا ذو نسب, قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال: لا ـ الحديث بطوله, الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا الأوزاعي, عن شداد أبي عمار, عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إِن الله اصطفى من ولد إبراهيم إِسماعيل واصطفى من بني إِسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» انفرد بإخراجه مسلم, من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام به نحوه, وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً, حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم, عن سفيان, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن المطلب بن أبي وداعة, قال: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس, فصعد المنبر فقال «من أنا ؟» قالوا أنت رسول الله, فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, إِن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه, وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة, وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة, وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً, فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً» صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضاً, المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد, وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم» رواه الحاكم والبيهقي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر, حدثنا عاصم, عن زر بن حبيش, عن عبد الله بن مسعود, قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد, فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته, ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم, فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه, يقاتلون على دينه, فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن, وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء. وقال أحمد: حدثنا شجاع بن الوليد, قال: ذكر قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن سلمان, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك» قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال «تبغض العرب فتبغضني» وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاَية, ذكر عن محمد بن منصور الجواز, حدثنا سفيان عن أبي حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد, فلما نظر إليه راعه فقال: من هذا ؟ قالوا ابن عباس ابن عم رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال «الله أعلم حيث يجعل رسالته».
وقوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد} الاَية, هذا وعيد شديد من الله, وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاؤوا به, فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة, لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا, كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين ذليلين حقيرين, وقوله تعالى: {وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً, وهو التلطف في التحيل والخديعة, قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة, جزاء وفاقاً, {ولا يظلم ربك أحد} كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر, وجاء في الصحيحين عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, أنه قال «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة, فيقال هذه غدرة فلان بن فلان بن فلان» والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس, فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.